الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى بَلَاغَتِهَا وَظُهُورِهَا أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَالْمَذَاهِبِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، فَلَمْ يَأْخُذُوهُ بِجُمْلَتِهِ وَيُفَسِّرُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، بَلْ نَظَرُوا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَّتِهَا، وَحَاوَلُوا حَمْلَهَا عَلَى مَقَالَاتِهِمْ كَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، فَهَذَا يَقُولُ: إِنَّ الشِّرْكَ وَغَيْرَ الشِّرْكِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا لَا يُغْفَرَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَهَذَا يَقُولُ: إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ وَجَوَازِ غُفْرَانِهَا كُلِّهَا مَا اجْتُنِبَ الشِّرْكُ، وَذَاكَ يَقُولُ: إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُغْرِيَةً بِالْمَعَاصِي مُجَرِّئَةً عَلَيْهَا، وَالْآيَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُحَدِّدُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتْمًا لِإِفْسَادِهِ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ فِي إِفْسَادِ النَّفْسِ، فَمَغْفِرَتُهُ مُمْكِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ السَّيِّئُ فِي النَّفْسِ قَوِيًّا يَقْتَضِي الْعِقَابَ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ضَعِيفًا يُغْفَرُ بِالتَّأْثِيرِ الْمُضَادِّ لَهُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ- رَاجِعْ تَفْسِيرَ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [4: 17] إِلَخْ.{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُشْعِرُ بِعِلَّةِ عَدَمِ غُفْرَانِ الشِّرْكِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ وَاجِبِ الْوُجُودِ قَيُّومِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِأَنْ يَجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَا مَعَهُ- دَعِ الْإِلْحَادَ بِإِنْكَارِ سُلْطَتِهِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرُ النِّظَامِ الْبَدِيعِ فِي الْكَوْنِ- سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الشَّرِكَةُ بِالتَّأْثِيرِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، أَوْ بِالتَّشْرِيعِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، مَنْ يُشْرِكْ بِهِ فِي ذَلِكَ {فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}، أَيِ: اخْتَرَعَ ذَنْبًا مُفْسِدًا عَظِيمَ الْفُحْشِ وَالضَّرَرِ سَيِّئَ الْمَبْدَأِ وَالْأَثَرِ، تُسْتَصْغَرُ فِي جَنْبِ عَظَمَتِهِ جَمِيعُ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، فَيَكُونُ جَدِيرًا بِأَلَّا يُغْفَرَ وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ قَدْ يَمْحُوهُ الْغُفْرَانُ، وَالِافْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنْ فَرَى يَفْرِي، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ: الْقَطْعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الشَّيْءِ الصَّحِيحِ مُفْسِدٌ لَهُ، وَالشِّرْكُ بِالْقَوْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا وَبِالْفِعْلِ لَا يَكُونُ إِلَّا فَسَادًا، قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْيُ قَطْعُ الْجِلْدِ لِلْخَرَزِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْإِفْرَاءُ: (قَطْعُهُ) لِلْإِفْسَادِ، وَالِافْتِرَاءُ فِيهِمَا وَفِي الْإِفْسَادِ أَكْثَرُ، وَلِذَلِكَ اسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ فِي الْكَذِبِ وَالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ.كَانَتِ الْيَهُودُ تُفَاخِرُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرَهُمْ بِنَسَبِهِمْ وَدِينِهِمْ وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ شَعْبَ اللهِ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [5: 18]، وَقَوْلُهُ: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [2: 111]، وَقَوْلُ الْيَهُودِ خَاصَّةً: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [2: 80]، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَزْكِيَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورِهِمْ بِهِمْ، وَيُقَرِّبُونَ قُرْبَانَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ لَا خَطَايَا لَهُمْ وَلَا ذُنُوبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي مَالِكٍ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ فِي لُبَابِ النُّقُولِ.أَقُولُ: وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا تَزْكِيَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّا لَنُعَلِّمُ أَبْنَاءَنَا التَّوْرَاةَ صِغَارًا فَلَا تَكُونُ لَهُمْ ذُنُوبٌ، وَذُنُوبُنَا مِثْلُ ذُنُوبِ أَبْنَائِنَا مَا عَمِلْنَا بِالنَّهَارِ كُفِّرَ عَنَّا بِاللَّيْلِ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ أُخْرَى، وَرَجَّحَ أَنَّ تَزْكِيَتَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بِأَنَّهَا لَا ذُنُوبَ لَهَا وَلَا خَطَايَا، وَأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.أَمَّا مَعْنَى: {أَلَمْ تَرَ} فَقَدْ ذُكِرَ قَرِيبًا، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ تَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَجْعَلُهَا زَاكِيَةً أَيْ طَاهِرَةً كَثِيرَةَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَصْلُ الزَّكَاءِ وَالزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالْبَرَكَةُ فِي الزَّرْعِ، وَمِثْلُهُ كُلُّ نَافِعٍ، فَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْفِعْلِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنْمِيَةِ فَضَائِلِهَا وَخَيْرَاتِهَا، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِاجْتِنَابِ الشُّرُورِ الَّتِي تُعَارِضُ الْخَيْرَ وَتَعُوقُهُ، وَهَذِهِ التَّزْكِيَةُ مَحْمُودَةٌ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [91: 9]، أَيْ: نَفْسَهُ.وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ وَهُوَ ادِّعَاءُ الزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ، وَمِنْهُ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بِالْقَوْلِ، وَمَدْحِهَا وَلَوْ بِالْحَقِّ، وَلَتَزْكِيَتُهَا بِالْبَاطِلِ أَشَدُّ قُبْحًا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّزْكِيَةِ مَصْدَرُهُ الْجَهْلُ وَالْغُرُورُ، وَمِنْ آثَارِهِ الْعُتُوُّ وَالِاسْتِكْبَارُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ، وَالِانْتِفَاعِ بِالنُّصْحِ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: لَيْسَتِ الْعِبْرَةُ بِتَزْكِيَتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ بِأَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّكُمْ لَا تُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّكُمْ سَتَكُونُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ دُونَ غَيْرِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ وَالْأَقْوَامِ بِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ، وَالْآدَابِ الْكَامِلَةِ، وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ شَهَادَةِ كِتَابَةٍ لَهُمْ بِمُوَافَقَةِ عَقَائِدِهِمْ وَآدَابِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [53: 32].{وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ اللهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا غَيْرَهُمْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْئًا مِمَّا يَسْتَحِقُّونَهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَلَوْ حَقِيرًا كَالْفَتِيلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ أَصْلَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى النَّقْصِ، أَيْ: لَا يَنْقُصُهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ شَيْئًا مَا بِعَدَمِ تَزْكِيَتِهِ إِيَّاهُمْ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَزْكِيَتِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِعَدَمِ اتِّبَاعِهِمْ لِمَا تَكُونُ بِهِ النَّفْسُ زَكِيَّةً مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَنِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَالْفَتِيلُ: مَا يَكُونُ فِي شِقِّ نَوَاةِ التَّمْرَةِ مِثْلَ الْخَيْطِ، وَمَا تَفْتِلُهُ بَيْنَ أَصَابِعِكَ مِنْ وَسَخٍ أَوْ خَيْطٍ، وَتَضْرِبُ الْعَرَبُ بِهِ الْمَثَلَ فِي الشَّيْءِ الْحَقِيرِ فَهُوَ بِمَعْنَى {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [4: 40]، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ، فَخِذْلَانُ الْمُلَوَّثِينَ بِرَذِيلَةِ الشِّرْكِ فِي الدُّنْيَا بِالْعُبُودِيَّةِ لِغَيْرِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ انْحِطَاطِهِمْ، وَعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ نَعِيمِهَا لَا يَكُونُ بِظُلْمٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ وَنَقْصِهِ إِيَّاهُمْ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِنُقْصَانِ دَرَجَاتِ أَعْمَالِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنِ الْعُرُوجِ بِأَرْوَاحِهِمْ، بَلْ بِتَدْسِيَتِهَا لِنُفُوسِهِمْ، لِتَزْكِيَتِهِمْ إِيَّاهَا بِالْقَوْلِ الْبَاطِلِ دُونَ الْفِعْلِ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [6: 132]، كَدَرَجَاتِ الْحَرَارَةِ فِي مِيزَانِهَا، وَدَرَجَاتِ الرُّطُوبَةِ فِي مِيزَانِهَا، فَمَا كَلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الْأُولَى يَغْلِي بِهَا الْمَاءُ، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا يَكُونُ بِهَا جَلِيدًا، وَلَا كُلُّ دَرَجَةٍ مِنَ الثَّانِيَةِ يَنْزِلُ بِهَا الْمَطَرُ، وَكَدَرَجَاتِ امْتِحَانِ طُلَّابِ الْعُلُومِ فِي الْمَدَارِسِ، أَوِ الْأَعْمَالِ فِي الْحُكُومَةِ لَا يُنَالُ الْفَوْزُ فِيهَا إِلَّا بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى الْمُحَدَّدِ أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا بِالْحِكْمَةِ.وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ عَامِلِ خَيْرٍ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا؛ لِأَنَّ لِعَمَلِهِ أَثَرًا فِي نَفْسِهِ يَكُونُ مَنَاطَ الْجَزَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ تَأْثِيرُ عَمَلِ الْمُشْرِكِ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ أَلْبَتَّةَ، فَإِنَّ عَمَلَهُ يَنْفَعُهُ بِكَوْنِ عَذَابِهِ أَقَلَّ مِنْ عَذَابِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ مِنَ الْخَيْرِ مِثْلَ عَمَلِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا رَجُلَانِ يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ، أَحَدُهُمْ مُقِلٌّ وَالْآخَرُ مُكْثِرٌ، فَضَرَرُ الْمُكْثِرِ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ ضَرَرِ الْمُقِلِّ، وَآخَرَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الشُّرْبِ وَلَكِنْ بِنْيَةُ أَحَدِهِمَا قَوِيَّةٌ تُقَاوِمُ الضَّرَرَ أَنْ يَفْتِكَ بِالْجِسْمِ، وَبِنْيَةُ الْآخَرِ ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ الْمُقَاوَمَةَ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَذَا مِنَ الشُّرْبِ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ ذَاكَ.كَذَلِكَ الرُّوحُ الْقَوِيَّةُ السَّلِيمَةُ الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةُ الْإِيمَانِ الْمُزَكَّاةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لَا تَهْبِطُ بِهَا السَّيِّئَةُ الْوَاحِدَةُ وَالسَّيِّئَتَانِ إِلَى دَرَجَةِ الْأَشْرَارِ الْفُجَّارِ فَتَجْعَلَهَا شَقِيَّةً مِثْلَهُمْ، بَلْ يَغْلِبُ خَيْرُهَا عَلَى الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهَا، فَيُزِيلُهُ أَوْ يُضْعِفُهُ حَتَّى يَكُونَ ضَرَرُهَا غَيْرَ مُهْلِكٍ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ قَدْ يُعَذَّبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِذَنْبِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْهَالِكِينَ الْخَالِدِينَ.وَالْعِبْرَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ هِيَ وُجُوبُ اتِّقَاءِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ، كَمَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ بِقُرُونٍ، وَاتِّقَاءُ مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَوْلِ وَاحْتِقَارِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي انْجَرَّ إِلَى احْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ الْغُرُورِ وَتِلْكَ التَّزْكِيَةِ الْبَاطِلَةِ فِي الدُّنْيَا أَنْ غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَمْرِهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَرْضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ الْعَظِيمَ الْحَكِيمَ لَا يُحَابِي فِي سُنَنِهِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ مُسْلِمًا وَلَا يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا؛ لِأَجْلِ اسْمِهِ وَلَقَبِهِ، أَوْ لِانْتِسَابِهِ بِالِاسْمِ إِلَى أَصْفِيَائِهِ مِنْ خَلْقِهِ، بَلْ كَانَتْ سُنَنُهُ حَاكِمَةً عَلَى أُولَئِكَ الْأَصْفِيَاءِ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى إِنَّ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ قَدْ شُجَّ رَأْسُهُ وَكُسِرَتْ سِنُّهُ، وَرُدِيَ فِي الْحُفْرَةِ يَوْمَ أُحُدٍ لِتَقْصِيرِ عَسْكَرِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ نِظَامِ الْحَرْبِ، فَإِلَى مَتَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْغُرُورُ بِالِانْتِمَاءِ إِلَى هَذَا الدِّينِ، وَأَنْتُمْ لَا تُقِيمُونَ كِتَابَهُ وَلَا تَهْتَدُونَ بِهِ، وَلَا تَعْتَبِرُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ النُّذُرِ، أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ عَادَتِ الْكَرَّةُ إِلَى تِلْكَ الْأُمَمِ عَلَيْكُمْ بَعْدَ مَا تَرَكُوا الْغُرُورَ، وَاعْتَصَمُوا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، بِمَا جَرَى عَلَيْهِ نِظَامُ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ، حَتَّى مَلَكَتْ دُوَلُ الْأَجَانِبِ أَكْثَرَ بِلَادِكُمْ، وَقَامَ الْيَهُودُ الْآنَ لِيُجْهِزُوا عَلَى الْبَاقِي لَكُمْ، وَيَسْتَرِدُّوا الْبِلَادَ الْمُقَدَّسَةَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَيُقِيمُوا فِيهَا مُلْكَهُمْ؟! فَاهْتَدُوا بِكِتَابِ اللهِ الْحَكِيمِ وَبِسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، وَاتْرُكُوا وَسَاوِسَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ يَبُثُّونَ فِيكُمْ نَزَعَاتِ الشِّرْكِ فَيَصْرِفُونَكُمْ عَنْ قُوَاكُمُ الْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَعَنِ الِاهْتِدَاءِ بِكَلَامِ رَبِّكُمْ إِلَى الِاتِّكَالِ عَلَى الْأَمْوَاتِ، وَالِاسْتِمْسَاكِ بِحَبْلِ الْخُرَافَاتِ، وَيَشْغَلُونَكُمْ عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ بِمَا لَمْ يُنْزِلْهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالصَّلَوَاتِ، وَمَا غَرَضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا سَلْبُ أَمْوَالِكُمْ، وَحِفْظُ جَاهِهِمُ الْبَاطِلِ فِيكُمْ، أَفِيقُوا أَفِيقُوا، تَنَبَّهُوا تَنَبَّهُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَمْ يَظْلِمْ وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا فَتِيلًا، فَمَا زَالَ مُلْكُكُمْ، وَلَا ذَهَبَ عِزُّكُمْ، إِلَّا بِتَرْكِ هِدَايَةِ رَبِّكُمْ، وَاتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنْكُمْ.{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} أَيِ: انْظُرْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ كَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُهُ الْخَاصُّ وَأَبْنَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَأَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً يَخْرُجُونَ فِيهَا عَنْ نِظَامِ سُنَنِهِ فِي سَائِرِ خَلْقِهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِنَعْتَبِرَ بِهِ.{وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} أَيْ: وَكَفَى بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ آثَامِهِمْ إِثْمًا بَيِّنًا ظَاهِرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةً خَاصَّةً مُخَالِفَةً لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي عَامَلَ بِهَا غَيْرَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ مَغْرُورُونَ جَاهِلُونَ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْإِثْمُ عَلَى الْكَذِبِ خَاصَّةً، وَعَلَى كُلِّ ذَنْبٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْإِثْمُ وَالْآثَامُ: اسْمٌ لِلْأَفْعَالِ الْمُبْطِئَةِ عَنِ الثَّوَابِ، يَعْنِي عَنِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَيَّنَ صِدْقَ ذَلِكَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ؛ إِذْ قَالَ تَعَالَى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [2: 219]، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، وَالْغُرُورَ بِالدِّينِ وَالْجِنْسِ، مِمَّا يُبَطِّئُ عَنِ الْعَمَلِ النَّافِعِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا بِالْعِزِّ وَالسِّيَادَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْحُسْنَى وَزِيَادَةٍ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [2: 219]، أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْإِثْمِ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ ضَارًّا، وَأَيُّ ضَرَرٍ أَكْبَرُ مِنْ ضَرَرِ الْغُرُورِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالدَّعْوَى وَالتَّبَجُّحِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ؟! يَغُشُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِمَدْحِهَا، وَيَتْرُكُونَ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَرْفَعُهَا وَتُعْلِيهَا، وَقَدْ تَرَكَ الْيَهُودُ ذَلِكَ مُنْذُ قُرُونٍ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ لِمِلَّتِهِمْ، وَهُمْ سَاكِتُونَ سَاكِنُونَ، وَلَا يَدَّعُونَ وَلَا يَتَبَجَّحُونَ، فَاعْتَبِرُوا أَيُّهَا الْغَافِلُونَ. اهـ.
|